ليتنا ظللنا أطفالا: السر المظلم خلف سلطع برجر!

بعض العروض التلفزيونية تظل عالقة معنا لا يمحوها الزمن، تصبح جزءًا منا وتخلف بداخلنا عشرات الأسئلة، هذه الأسئلة لا تقل أهمية عن المعضلات الفلسفية الكُبرى، فلسنوات عديدة كُنا نتمنى لو ترتفع الكاميرا قليلًا في توم وجيري حتى نرى وجه السيدة، الذي لا يظهر أبداً. وعلى العكس بعض العروض الأخرى، نُشاهدها فتنفضها الذاكرة بسرعة وكأنها غُبار تخافُ المساحة التي قد يأخذها من عملٍ آخر أهم. وعرضنا اليوم من النوع الأول، وهو سبونج بوب. هذا العرض الذي لم يبقَ في ذاكرتنا فقط،، لكنه ترك عديدًا من علامات الاستفهام، مثل: سر سلطع برجر «Krabby Patty»؟ كيف يمكن أن تكون لؤلؤة ابنة مستر سلطع؟ ولماذا تأخذ منه نقودًا مثلما تُريد على الرغم من أنه لا يخرج المال بسهولة؟ وغيرها كثير من الأسئلة، التي سأجيبها في هذا المقال، من ناحية لإشباع الفضول الذي يمتلكنا نحوها، ومن ناحية أُخرى لإثبات أن سبونج بوب أكبر من مجرد مسلسل للأطفال، وأن هذه الأعمال يضع فيها صانعها الكثير من نفسه وحياته الشخصية، مما يجعلها تستحق نظرة أعمق قليلًا.

زمن الحرب في سبونج بوب

في الموسم الثالث الحلقة العاشرة تبدأ الحلقة نصًا بأن مستر سلطع دخل في «اكتئاب يبدو أنه غير نهائي بسبب الحرب» وتكمل الحلقة في مسارها الطبيعي دون أن تخبرنا عن أي حرب نتحدث، وما علاقة مستر سلطع بالحرب، لكن الحرب مثلها مثل عشرات المسائل في المسلسل. ملفات كاملة عند أصحاب العمل لكنهم يظهرون منه ومضات فقط خلال الحلقات، ويجب أن تتبع خيوطها حتى تفهم الصورة الكاملة، ومن هذه النقطة تحديدًا يمكن أن نتذكر مشاهد كان مستر سلطع يعمل فيها في البحرية، وما زال يحتفظ بتذكارات منها في مكتبه، لكن من العدو الذي يمكن محاربته؟

نظرية التطور

قاع الهامور مثله مثل الدول البشرية، مكان له قوانينه ومواطنوه، وحوله دُول أُخرى -كما سيظهر في النُقطة التالية- وهذه الدولة لها أعداء، لكن إذا دققنا في المشاهد التي رأينا فيها هجومًا بين قاع الهامور وغيرهم، سنجد الأسماك البدائية، وهي على صورة الأسماك التي نعرفها اليوم، ولهذا السبب بالتحديد، ظهرت عشرات المقالات والمقاطع التي تتحدث عن نظرية التطور في سبونج بوب وأن هناك أسماكًا بدائية وأخرى متطورة، لكن شكك أحد نقاد المُسلسل –Alex Bale– في هذه النظرية لأنه وجد أن هناك تحولات أيضًا لسكان قاع الهامور من الشكل المتطور للشكل البدائي، وقد شاهدنا مرةً لؤلؤة وهي تتحول إلى حوت، وشفيق وهو يتحول إلى أخطبوط عملاق، وهذه التحولات كانت مرتبطة بظهور قمر أخضر في قاع الهامور، لكن نقطتنا الآن ليست نفي مسألة التطور بل الأسماك البدائية.

من حلقات المسلسل الكرتوني سبونج بوب

مصدر الغذاء الذي تخفيه نيكلوديون

الأسماك البدائية لم تكن مصدر خطر فقط يستوجب الحرب، بل هي مصدر للغذاء أيضًا، وعلى الرغم من تأكيد صناع المسلسل أن سكان قاع الهامور يعتمدون على أغذية نباتية فقط، فإننا نرى في الحلقات غير هذا، هذا غير تعهدات نيكولودين على صُناع الأعمال لديها بعدم إفشاء أسرار حول العمل الذي يقومون به. بعض الحلقات كان سبونج بوب وشفيق ومستر سلطع يخرجون لصيد الأسماك، بل لو ركزنا في دلو الصداقة الخاص بشمشون، سنجد أن الأسماك جزء أساسي من وجباتهم، فاسم المطعم في الأساسي باللغة الإنجليزية «Chum Bucket» وهذا معناه أجزاء من الأسماك مخلوطة مع عظامها ودمها، لكن ما علاقة كل هذا بالحرب بمستر سلطع؟

ذكرى القتل التي تطارد مستر سلطع 

لفهم الحكاية يجب أن نعود للوراء قليلًا ونُدقق في حياة شخصية لا نعرف كثيرًا عنها لكننا نعرف على وجه اليقين أن هناك شيئًا خطأً في قصتها، وهي لؤلؤة، التي تظهر من اللحظات الأولى في المسلسل بشكلٍ عفوي وتلقائي على أنها ابنة مستر سلطع، ومع أنه من المستحيل أن يُنجب السلطعون حوتًا إلا أن الأمر لم يكن ذا أهمية كبيرة، لأن الصورة الظاهرة هي أن لؤلؤة ابنته بالتبني، لكن تظل هناك مشكلتان، المشكلة الأولى أننا خلال حلقات المسلسل شاهدنا  عديدًا من المشاهد التي تطلب فيها لؤلؤة المال والهدايا من أبيها، والغريب أنه كان يستجب لها، ويعطيها ما تريد ويخاف أن تغضب منه، فهل هذا لأنه يعلم أنها فقدت أبويها، وأنه آخر من تبقى لها، هل يمكن أن تؤثر مسألة مثل هذه في شخصٍ مثل مستر سلطع؟ سنرى.

 أما النقطة الثانية فهي جُملة غريبة تتكرر كثيرًا في المسلسل بلغته الأصلية –الإنجليزية– الغريب أنه كلما حدث مع مستر سلطع أمر سيئ أو مشكلة أو ارتطم بشيء أو خسر ماله لا يقول إلا جملة واحدة «Mother of Pearl»، «والدة لؤلؤة»، وهذا التعبير ليس من اللغة في شيء، وهناك كثير من التعابير الإنجليزية التي تستخدم في هذه الأوقات، فهل من الطبيعي أن يذكر أحدهم والدة الطفلة التي يتبناها كُلما حدث له شيء مروع؟

من أحد حلقات سبنوج بوب

تبني على ضوء الجريمة

ألقينا عديدًا من الأحاجي والقطع المتفرقة الآن لنجمعها مرة أخرى ونرى الصورة النهائية، الصورة التي ربما لم تلاحظها من قبل وقد شاهدت المسلسل عشرات المرات. لنبدأ هذه العملية من مكتب مستر سلطع، هذا المكان الذي يحتفظ فيه بعديد من التذكارات والصور، إذا نظرنا فيه بتركيزٍ شديد سنجد أن هناك صورتين واضحتين وكأن صناع العمل يُشيرونا إليهما، والصورتان للفكرة نفسها، حوت ضخم للغاية بجانب مركب للصيد، ولكن لماذا يُعلق صورة مثل هذه على الحائط هل لها أهمية مُعينة لديه؟ الحقيقة نعم، لو تأملنا أكثر سنجد أن لديه سهمًا ضخمًا يستعمل في صيد الحيتان، إذًا لدينا احتمالية أن مستر سلطع قد اصطاد حوتًا ضخمًا، لكن بالطبع الصور والسهم دليل على أن الأمر أكبر من مجرد حوت عشوائي أو سمكة وقعت تحت يده.

إنها السمكة التي قتلها، ووجد بجانبها ابنتها الصغيرة فأخذها وقام بتربيتها ورعايتها، الصور المُعلقة والسهم، للجريمة التي ارتكبها في حق والدة لؤلؤة، ويبدو أن هذا السر وهذه الجريمة يطاردانه من أيام الحرب، وهم سبب اكتئابه في بداية الحلقة، الآن فهمنا اللغز الأول، مستر سلطع قتل والدة لؤلؤة، ولهذا يردد اسمها كثيرًا كلما حدث شيء سيئ له، ولهذا يُعلق صورها، ويهتم بابنتها. نأتي للغز الأهم!

كولاج مستوحى من حلقات سبونج بوب

السر الذي ليتنا لم نبحث عنه

على الرغم من السرية والغموض اللذين يحيطان بسلطع برجر فإن الخلطة كُشِفت مرات كثيرة في المسلسل، مرةً نرى مستر سطلع وهو يُوقع المقادير بشكلٍ عشوائي مثل مستر يوتونيوم وبدلًا من خروج فتيات القوة خرجت له الوصفة المثالية للبرجر التي جعلته يتحول لرجل غني، لكن مرة أخرى يخبر شمشمون أنها وصفة تتوارثها العائلة وأن جدته كانت تصنع سلطع برجر بنفس الجودة التي تُصنع بها الآن، ومرة ثالثة، يسرق شمشمون الوصفة ويجد نفسه وبني نوعه ضمن المكونات، ومرة رابعة يقوم بتزييف الوصفة أمامنا حتى لا يسرقها أحد، والقائمة تستمر.

 لكننا لا نجده وهو يصنع البرجر أبدًا، بل ولا نجد أي مصدر للبرجر من الأساس، وكأن لديه الكمية اللازمة التي تكفيه لسنوات، مثلما رأينا مع شفيق وهو يقف أمام الآلاف من البرجر، وهنا يأتي حل اللغز أو الكارثة، سبب ثراء مستر سلطع، ونجاح مطعمه على مطعم شمشون، هو اللحم المستخدم في البرجر، وهو لحم الكائن الذي يطارده، ويجلسه حزينًا في منزله، إنها أم لؤلؤة، الحوت الذي قتله مستر سطلع ويعلق صوره على الحائط.

ربما شطحنا قليلًا.. أم لا؟

حسنًا ربما شطح الفكر واتسع الخيال وأتينا بأبعد مما أراده الصُناع، وكتبنا ما وددنا تصديقه على ما يمكن أن نخرجه بالملاحظة، وهذا الأمر أتفهمه تمامًا إلا أن هناك نقطتين يمكن أن يجعلاك تتراجع عن التشكيك، أولهما من الصعب للأسف أن أثبته في هذا المقال، لأنه خاص بفهم عالم سبونج بوب بشكلٍ عام، فالمسلسل مليء حتى التُخمة بالرموز والقصص المتصلة في الأساس والمنفصلة على مدار الحلقات، والآلاف من النظريات والأفكار التي تُناقش فيه، أحيانًا يصعب أن نصل لها، وأحيانًا أخرى يمكن أن نلتقطها بسرعة، إذا عرفت أن للمسلسل طريقة في التصوير، وطريقة تعامل مع الشخصيات، وأشياء يُنافس بها عائلة سمبسون ستُدرج أن سر سلطع برجر يكمن في قتل أم لؤلؤة مجرد نُقطة في بحر.

 لكن لنتحدث عن النقطة الثانية بل والأهم في هذا المقال وهي الحلم الذي آتى لمستر سلطع، وهو في منتصف البحر في مركب الصيد نفسه الذي في الصور المعلقة في مكتبه، ومعه سبونج بوب فقط، ونراه وهو يحاول صيد دولار من البحر، وهذا الدولار ثقيل ولا يمكن التحكم به بسهولة، وهنا نسمع مستر سلطع يقول بصوت مرتفع وحماس «Moby Dollar»، نعم إنه دليل آخر مباشر فنحن نعرف «Moby Dick» رواية الكاتب الأمريكي هيرمان ملفيل التي تتحدث بشكل أساسي عن صيد حوت ضخم، ولو بحثت باسم الرواية ستجد أن الرسومات المتخيلة لحوت الرواية هي تمامًا الموجودة في صور المكتب، بنفس حجم الحوت، ومأساة الحدث، وهذه الرمزية المباشرة تشرح ما حدث، مستر سلطع اصطاد الحوت وهذا الحوت هو مصدر أمواله الآن ونجاح مطعمه، لكن هذا يتركنا أمام كارثة أو اثنين بشكلٍ أدق.

حوت آخر تحت الشباك!

الكارثة الأولى أنه بناءً على هذه النظرية فإنه سيأتي يوم وينتهي فيه لحم الأم -الحوت المقتول- وهنا سيجد مستر سلطع نفسه أمام حل واحد وهو أخذ لؤلؤة وقتلها، ولهذا يهتم بها الآن ويبقيها قريبة منه حتى تكبر، ويقتلها ليستمر عمله، حتى لو لم يحب هذا سيكون وقتها أمام المال أو لؤلؤة وبالطبع نعرف من سيختار، لكن لماذا نتعب أنفسنا لقد اختار بنفسه في هذا المشهد وهو يقلب في صوره مع لؤلؤة ثم يلقي الألبوم بعيدًا لأنه سيتخلى عن أي شيء، مقابل المال.

التأرجح بين البُخل والشوجر دادي

لكن لنأت إلى الكارثة/النظرية الثانية، التي سنذكرها باختصار، وتتحدث عن أن مستر سلطع لا ينظر إلى لؤلؤة على أنها ابنته، بل ينظرلها نظرة رومانسية أكثر، ولا أقصد هنا بشكلٍ جيد، يمكن أن نُلخص علاقته معها في مصطلح الـ«Sugar Daddy» وهو رجل كبير في السن وثري، وفي الغالب مختلف في الشكل كثيرًا عن شريكته، ولأنه ليس فيه ما يغريها إلا ماله، فيقوم بتقديمه لها، حتى ترضى عنه. وتتركه هي في حياتها لهذا المال حتى لو اضطرت لتنفيذ ما يريده في بعض الأحيان، وهذا يفسر التصرفات الغريبة التي يفعلها مستر سلطع مع لؤلؤة حينما يتعلق الأمر بالمال، فهو يعطيها ما تريد، وإن كان عنده حُجة قوية، تصرخ في وجهه أو تُحدق فيه حتى يذعن لها ويرفع أشرعته البيضاء.

هل تُصدق الآن أن الأمر أكثر من مجرد كرتون سطحي ومشاهد مضحكة؟ المشكلة ليست في أنه مُقدم للأطفال، بل في أننا نجهل أن هناك بشرًا وكتابًا خلف هذه الأعمال، لهم أفكار وحياة، أشياء يريدون إخفاءها وأشياء يريدون إظهارها، وأشياء تخرج منهم على حين غفلة، إنها الرقصة اللانهائية بين الفن والمتلقي، المُتعة التي لن تنتهي أبدًا، ربما تخميناتنا خطأ وربما كلها صحيحة، المُهم أن نستمر في التفكير والتأمل والتخمين باستمرار النَفَس في النَفْسِ.